موت ابو بكر الصديق
ودخل عمر بن الخطاب على أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما في مرض موته، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كلفت القوم بعدك تعباً، ووليتهم نصباً، فهيهات من شق غبارك! وكيف باللحاق بك!.
وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأبوها يغمض:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل
فنظر إليها وقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أغمي عليه، فقالت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان وقال: قولي: " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " . ثم قال: انظروا ملاءتي فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت. ووقفت رضي الله عنها على قبره رضي الله عنه فقالت: نضر الله وجهك، وشكر لك صالح سعيك، فقد كنت للدنيا مذلاً عنها بإدبارك عنها، وكنت للآخرة معزاً بإقبالك عليها، ولئن كان أجل الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزءك، وأعظم المصائب بعده فقدك، إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك وحسن العوض منك، فإنا لنتنجز موعود الله بحسن العزاء عليك، واستعيضه منك بالاستغفار لك. أما لئن كانوا أقاموا بأمور الدنيا لقد قمت بأمر الدين حين وهى شعبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه. فعليك السلام ورحمة الله توديع غير قاليةٍ لك، ولا زاريةٍ على القضاء فيك. ثم انصرفت.
ولما قبض رضي الله عنه سجي عليه بالثوب، فارتجت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه باكياً مسرعاً مسترجعاً حتى وقف بالباب وهو يقول: رحمك الله يا أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم غناءً، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبهم على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقاً وفضلاً وهدياً وسمتاً، فجزاك الله عن الإسلام وعن الرسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، صدقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وأسماك الله في كتابه صديقاً فقال: " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " ، يريد محمداً ويريدك. كنت والله للإسلام حصناً وعلى الكافرين عذاباً، ولم تفلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك. كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً في بدنك، قوياً في أمر الله، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله جليلاً في الأرض، كبيراً عند المؤمنين. لم يكن لأحدٍ عندك مطمعٌ ولا لأجد عندك هوادة، فالقوي عندك ضعيفٌ حتى تأخذ الحق منه، والضعيف عنك قويٌ حتى تأخذ الحق له. فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك.